-A +A
علي بن محمد الرباعي
في يوم العيد هناك من يلبس لبوس الحربِ، وهناك من يُفصّل ثياب السلام، وهناك من يُحصي الغنائم، وهناك من يُرمم الروح والجسد من آثار الهزائم، وإذا غلبت رائحة الأحقاد والضغائن والجثث على نسمات البحر، وعبق الأشجار، وطغت الكراهية على براءة الطفولة، وكبرياء الطاعنين في السن، فمن تحصيل الحاصل أن نتساءل عن قُوى العالم العقلية، وهل هو صاحٍ أم مجنون؟

من شعبي الأسئلة الموجهة لمن يتمادى في الغلط ويجهل على الناس قولهم (متى تعقل يا فلان)؟ ويجاب عنه؛ لو لقي من يربّيه سيعقل.


يبدو العَالَم في ميزان التقييم الموضوعي شيخاً مُثقلاً بالأخطاء المكرورة، كونه لم يستفد من تجاربه، ولم يُعِدْ حساباته، ولم يهذّب بالحكمة المكتسبة نزواته وجشعه، بل جعل العِلم مُحذّقاً لفتح شهيته على مزيد من الرغبات والتطلعات الاستهلاكية، ولو أن العالم تعامل مع الحياة بالمعرفة والحكمة لتهذّب كثيراً، لكنه فكّ لغزها بمفاتيح الاختراعات المدمرة، وسار بها نحو جني المكاسب للجسد، دون اعتبار للروح، ولذا لم يشعر بأي تأنيب ضمير برغم ما يسيل من دموع ودماء.

ربما ظن البعض أن العقلانية آلية مصالح ومفاسد، جلباً ودرءاً، (إذا أنت لم تنفع فضُرّ فإنّما، يُرجّى الفتى كيما يضر وينفع) فيكون افتعال الإشكالات إيحاء عقلاء لإشغال الذات والآخر، والتفاعل للتخلص من الفراغ والعطالة، وتفعيلاً لمبدأ (مَنْ لا يظلم الناس يُظلمِ). وهناك كيانات معنية بمنح اليوميات سخونة وحيوية عبر طاقات سلبية، لتغدو الأذيّة مشروع حياة وطريق نضال، لتتويج مسيرته في الحياة بإنجاز أثر، ولو مذموم، ومما ورد في التراث أن الشيطان يفاخر بشيطنته وإعجابه بمنجزاته وسروره، خصوصاً عندما تُطْلَق عليه (لعنة الله) فيتجبر ويتباهى خلافاً لما يكون عليه من الخنس عند قولنا «نعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

سؤال متى يَعْقُل العالم سمعته من أحد البسطاء فلفتني لسؤال «هل للعالم عقل؟» ومن الذي سيربّي هذا العالم الأحمق؟ السؤال رمزي، وفي قنوات عدة يصف بعض المعلقين السياسيين عالمنا (بعالم مجنون)، وأحدهم يطيب له نعته (بالمُراهق)، فيما يؤكد طبيب نفساني أن العالم أشبه بكائن بشري جانب منه طفولة وجوانب ومراحل موزعة بين مراهقة، وجنون، وقلق وعبث، ونضج وحكمة، ولذا ترى وتسمع كل يوم ما لا تتوقع.

هل عالم اليوم منزوع الرحمة ومنبت الصلة مع الأنسنة التي نادى بها مفكرون وفلاسفة ومثقفون أفنوا أعمارهم في بناء نظريات تبشّر بالكوكب الآمن؟

يرى الوعظ أن الصراع المحموم سنة من سنن التدافع الواردة في كتاب الله، (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت...) ويدلل بالنص على أن الحروب والاقتتال والأزمات لم تتوقف في قرن من القرون منذ خلق الله السماوات والأرض.

ويذهب إعلامي إلى أن غليان العالم لم يهدأ يوماً، إلا أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي نقلت الأحداث الكبرى من دهاليز السياسة إلى بيوت الأغنياء والفقراء وجعلت من المواطن البسيط جزءا من الحدث من خلال الصوت والصورة.

كل فاعل في هذا العالم يتكئ على فكرة لتبرير مشروعه، فهناك الاقتتال بتغذية أديان، والتطاول تحت مظلة الأيديولوجيات، والفتك بذريعة الربح وتوسيع دائرة الاقتصاديات، والتدمير بغطاء تحقيق العدالة وخلق التوازنات، وهناك الرغبة في الهيمنة وإثبات الذات، وكل ذلك ينطلق من قرارات تؤمن بأن الجنون فنون وأن إخراج العالم من الرتابة مطلب أممي وإن بخلق المزيد من الصراعات والتفنن في إدارتها.

طبيعي أن العَالَم ليس نرجسياً كما يحلم معظمنا أو يريد. ومن لوازم جنون العالم أن يكتوي المجنون بنيران جنونه ويتجرع مرارات الخوف والألم (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون). وأتصور أن العرفانيين أول من أدرك اختلال عقل العالم فاختاروا العيش خارج الذات ليكونوا بعيدين عن حقائق الكون.

حذّرنا القرآن من قتل أبنائنا خشية الفقر ومخافة الفاقة، لكن العالم غير العاقل يقتل أبناءه (الشعوب) ليحافظ على رفاهية النخبة التي تملك العلم والمال لكنها تفتقد المعرفة والحكمة التي تضبط التصرفات، ولربما لم يبلغه قول ابن زريق (قد قسّم الله بين الخلق رزقهم، لم يخلقِ اللهُ مخلوقاً يُضيّعه).

ولعل وباء كورونا أحد المُربّين الربانيين المُكَلّف برد عقل العالم في رأسه ليعرف خلاصه. وكل عام وأنتم بخير.